من مدرب منتخب الفدائي لكرة القدم إلى لاجئ: كفاح صائب جندية من أجل البقاء في غزة
غزة, 31 مارس 2025 - اتخَذَ كَومَةً مِنَ الرُكَامِ وجَلَسَ عَلَيهَا وَكَمن سَقَطَ مِن عِلوٍ شَاهِقٍ وارتَطَمَ بِالأَرضِ مِنَ ثِقَلِ مَا أَصَابَهُ وهُوَ يُرَددُ:" “خَسِرتُ مَنزلاً مِنَ ثَلاَثِ طَوَابِق، عَملَتُ لأَكثَرَ مِن 30 عاماً مِن أِجلِ تَشييِدِه، بَعدَ استِقلاَلِي عَن بَيت العَائِلة، تَم قَصفِهِ وتَسوِيَتهِ بِالأَرض،
كَانَ هَذا صَائب جُندية قَائِد المُنتَخَب الفِلَسطِيني السَابِق مَصدُومًا مِمِا رِآهُ مِن رُكًامِ بَيتهِ الذَي أتَى لِتَفَقدهِ بَعدَ نُزوحِ قَسرِي لِعَامٍ وثَلاَث شًهور وبَعدَ تَوقِيعِ وَقفَ إطِلاَقِ النَار بِغَزَة لِيَجَدَ مَاَ تَبَقَى مِن ذِكرَيَاتِهِ قَمِيصَا المُنتَخب الفِلَسطِيني بَيَنَ أَكوام الحِجِارة.
يَسكُنُ جُندية فِي حَي الشِجَاعِيَة شَرق مَدِينَة غَزَة القَرِيبَة مِنَ الحُدودِ الشَرقِيَة لِقِطَاعِ غَزَة، وكَثيِراَ مَاَ كَاَنَت تَتَعَرَض هَذِه المَنطِقَة لِلِقَصفِ والتَدمِير خِلاَل كُلَ عُدوَان عَلى القِطَاع،
يَقُولُ: فِي السَابِعِ مِن أكتوبر2023 فُوجِئتُ بِالقَصفِ المُتَوَاصِلِ دُونَ تَوَقف، وأُصيبَ بَيتِي بِقَذَائِف وَنَحنُ مَازِلنَا مُتًوَاجِدِين بِهِ، وعَمَ الدُخَان البَيَتَ بِأَكمَلِهِ، عَلَى الفَورِ قُمتُ بِإخرِاج عَائِلتي ووالدتي إلى بَيَتِ جِدِي عِندَ مَلعَب فِلَسطِين غَرب مَدِيَنة غَزة وبَقَيًت حَتَى السَاعَة العَاشَرِة صَبَاحَاَ فَي البَيِت لِمُتَابَعةِ الوَضعِ وأُقَرر إذا كَانَ بِالإمكَان البَقَاء وعَوَدة الأسرَة، لَكِن كُلهَا دَقَائِق وأَصبَحَ الجَو العَام صَعبَا لِلغَايَة وسَقَطَ الكَثير مِن الشُهَدَاء واضطرَرتُ لِتَركِ بَيتي".
يُوَاصِلُ السَرد:" ذَهَبتُ بِرِفقَة اخوَتِي إلى مُستًشفَى الشِفَاء لِتَفَقدِ المُصَابِينَ مِن أَفَرَاد العَائِلة وبَقِيًت فَترة قَلِيلَة عِند بِيَت جِدِي لِكِن القَصفِ اشتَدَ أَكثَرَ وَبَعَدَهَا اتَخَذتُ قَرَارَاَ بِالنُزُوحِ والتَوَجه إلى الجَنَوب.
صَائب جندية يَعَمَلُ فِي دَائِرة المُنَتخَبَات فِي الاتِحَاد الفِلَسطِيني لِكُرةِ القَدم لِلمُحَافَظَات الجَنُوبِيَة ومُشرِفَاَ َعَلَى الفِئَاتِ العُمرِيَة لِلمُنتَخَبِ الأُولُمبي والشَبَاب والناشئين، وكَانَت أُجرِيَت قُبَيل الحَرب بِوقتٍ قَلِيل بُطُولَة كرة قدم لمواليد 2008 عَلَى جَمِيعِ مَلاَعِبِ غَزَة لِيَتَم اختِيَار لاَعِبِين مُمَيزين لِإلحَاقِهِم بِالمُنَتخَبَاتِ الفِلَسطِينية، وعَمِلَ فِي أَكَادِيمِيَة تَشَامبِيونز، ثُم عَادَ لِلتدريبِ مِن جَدِيد وتَعَاقد مَع نَادِي الهلال قَبل الحرَبِ بِثَلاَثِ أَيَام وَلَم أَخُوضَ أَي مُباراة.
لَم يَكُن مِن السَهلِ الحَديثَ مَع الكَابتِن "جندية" بَيَنمَا يَتَفَقدَ بَيتِه ويَبكيهِ بِكل زَوَايَاه مُتَأَلِمًا لِضَيَاعِ شَقَي العُمر وذِكرَيَاتِهِ الرِيَاضِيَة، لَكِنَ الحَدِيثَ هُو المُتًنَفس الوَحَيد لألامه :"لاَ شَيئ يُعوض، شَقَى العُمر ذَهَبَ مَعِ الرِيح، ولاَ أَثَرَ لِلمَتحَفِ الرياضي الذَي أَقمتُهُ فِي بَيتي وكَان يَضَمُ كَافَة المِيدَالِيَات والكُؤوس وأَغَلَى الإنجَازَات، بُرونزيّة الدًورة العَربِيَة مَع مُنتَخَبِ فِلَسطِين عَام 1999، الميدالية البرونزيّة فِي لُعبة كُرة القَدَم خِلاَل دَوَرة الأَلعَاب الآَسيَوية الشَاطِئِيَة الثَالِثَة، التَي أَقيمت فِي الصِين عام 2012، إلى جَانب عَدد مِن المِيدَالِيَات، والكُؤوس، والدُروع التَقدِيرية،
يُضِيف:" مِن كُل هَذا التَاريخ استطعتُ استخراجَ قَمِيصَا المُنتَخَب الفِلَسطِيني اللًذان ارتَدَيتهما خلال مًشِارَكَاتِي الخَارِجِيَة، وكَانَ الطَابِق الثَانِي كُنتُ أُعِيشُ بِه، أَمِا الطَابِق الثاَلِث فَكَان لأَبنائي".
بَعَدَ اشتِدَادِ الغَارَاتِ وتَوَاصل القَصفِ عَلى مَدِيَنة غَزَة ألقَى الاحتِلاَل مَنَاشِيَر تُطَالِبُ السُكَان بِالتَوَجه إلى الجَنُوب واخلاَء المَدينَة، لَم يَكُن هُنَاكَ أَي مَجَال لِلبَقَاء، يَقُولُ:" بَدَأَ الاحتلال بإلقاء المَنَاشِيرِ تُطَالِبنَا بِالإخلاَء، لَم يَكنُ أَمَامَنا أَي مَجَال لِلتَفكِيرِ عَلَى الفَورِ قَررنَا التَوَجُه إلى الجَنُوبِ، وَبَعدَ تَوَاصلي مع الأَصدِقَاء انتَهى الأمر بِاستِضَافَتنا فَي نَادِي اتحَاد دير البلح مِن خِلاَل رَئِيس النَادِي "معاذ أبو سليم" ابن نائب رئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم الراحل إبراهيم أبو سليم".
طَريقٌ محفوفٌ بِالمَخَاطِر وَرَائِحة المَوت تَنبَعِثُ بِكُلِ مَكَان، كَانَ عَلَيهِ وأُسرَتِهَ قًطعُ مَسَافَات طَوِيلَة لِلِوصولِ إلى الجَنُوبِ، يُوضحُ:" تَحَرَكتُ أَنَا وأُسرتي وتُرَافِقَنِي وَالدِتِي عَلى طَريق صَلَاح الدين، كَانَ الجَو العَام مُخِيف، السَماءُ مُلبدة بِالطَائِرات الحَربِيَة التي كَاَنت تَقصِفُ دُونَ تَوقف، وانعِدَام أَي حَركة ِلِلسِياراتِ والمواصلات مشلولة تماماً، مشينا مسافة تقدر ب ستة كيلو مترات سيرا على الاقدام، من ملعب فلسطين غَرب مَدينة حَتى دَوار الكُويت وَسطَ قِطَاع غَزَة،
صَمَتَ لِبِرهَة مِنَ الوَقتِ كَانَ يُحَاوِلُ أَن يَستَذكِر مَا حَدثَ مَعهُ:" وَنَحنُ فِي طَرِيقِينَا بَينَمَا نَحنُ مُتعَبُون مِنَ المَشي لِمسَافَاتٍ طَوَيلَة تَحتَ وَقعِ القَصِفِ الإسَرَائيلي وإذ يَقُوم الاحتِلال بِقَصفِ بَعَضَ السَيَارات الخَاصَة لِلمِواطِنِين كَانَت تَقِلُ نَازِحِين وَكَانَ عَلى جُنبَاتِ الطَريقِ عَدد مِن الشُهَدَاء، اضِطَرَرنَا لِتَغيير الطَريقِ ونَسلكَ طَريقَا آخرًا مِن حَي الزَيتون شَرق مَدينة غَزة مُرورًا بِحَاجِز نيتساريم.
وفِي طَرِيقهِ إلى الجَنوب خِلال النُزوح نَظرَ خَلفِه وكَأَنه يَلقِى نَظرةَ الوَدَاع عَلى المَدِيَنة التي عَاشَ فِيَهَا حَيَاتِهِ تَارِكًا ذِكَريَاتِه الجَمِيلَة وتَفَاصِيل حَيَاتِه،
:" تَرَكتُ أَجمَل أَيَامَ حَيَاتِي وذِكريَاتي، بَيتي الدَافئ، حَتى مِيدَالِياتي وقُمصَان الأَندية والمُنَتخب الفِلَسطيني وأغراضِي الشَخصِيَة وحَتى الأَورَاق الثُبُوتِيَة لَم أَستَطع أَن آخذَها مَعِي، لَقَد دَمرَ الاحتِلاَل المَنطِقَة التي أَسكُنُ بِهَا بِالكَامِل، كَانَت العَوَدَة مُستَحِيلَة آنذاك.
بَعدَ رِحلَة مَشَقة وعَذاب وَصَلَ الكَابتن صائب جندية إلى نَادي اتحَاد دير البلح غَرب مُحَافَظة دِير البَلَح لِيستَقر فِي النَادي نَازِحَا ولَيَس مُدَرِبَا، فَلَم يَتَخَيَلَ أَنَ المَلاَعِبَ والأَندِيَة التِي كَانَت تَشهَدُ عَلى إنجَازَاتِه وتَاريخَهُ الرِيَاضِي أنَ تَتَحَوَلَ إلى مَكَانٍ لِلنزُوح القَسرِي، يَقُول:" وَصَلتُ النَادِي بَعَدَ مَشَقَة طَوِيلَة وسَانَدنِي الأَصدِقَاءُ فِي تَوفِيرِ مَقر النَادي لِلمكوثِ فِيهِ خِلاِلِ النُزُوح، لَكِني لَم أَتَخَيًلَ يَومًا أن يَكُونَ النَادِي مَكَانًا لِلنُزُوحِ ولَيسَ لِكُرِةِ القَدَم، وأَصبَحت تَفَاصِيلَ حَيًاتِي فِي المُستَطِيلِ الأَخضَر.
يَرى جُندِية أنً حَيًاتِه أَصبَحَت شِبه مُتَوَقِفَة، فَهوَ عَلَى أِرضِ مَلعَب نادي اتحاد دير البلح نَازِحًا وغَير قَادِر عَلى مُمارسَة الريَاضَة فَهُو مُضطَر لِلاستِيقَاظِ مُبَكِراً لِلبَحثِ عَن المَاء والطعَام، والحَطب لِإشعَالِ النًارِ مِن أجلِ تَحضير الطعَام، نَحنُ نَعِيشُ ظُروفًا لاَ تُشبِهَنَا ولاَ تُشبهُ حَيَاتِنَا السَابِقَة، هَكَذا وَصَفَ حَالَه.
خِلال فَترة نُزوحهِ فِي النًادي كَانَت هُنَاك بَعض المُبَادَرَات الرِيَاضِية بِرِفقَة إدَارَة النَادِي والُزمَلاَء والأَصدقَاء يَقُومُون بِهَا للتخفيفِ مِن حِدَة القَلَقِ والتَوَتر لِلأطفَالِ والنَازِحِين.
شعورُ ملوث بالإحباط واليأس يُسيطران عَليه، وبَدا عَليهِ الذُبُولَ وهُو يُحَاوِلُ وَصفَ الوَاقِع الذَي يَعِيشُهُ:" فِي العُدوَانِ المُتَكَرِرِ أَكثَرَ مِن مَرة فِي السَنَوَاتِ المَاضِيَة كُنتٌ أَتَمَكَنَ مِن مُمارسَة الرياضة وأَشغل نَفسي بِهَا، لِكِنَ خِلاَلَ حَرب الإبادة هذَه لاَ مَجَالَ لِلتفكير بِالرياضة أَو أَي شَي آخر، فَهُنَاك أَولَوِيَات قَبَلَ كُل شَيء"، يُضِيفُ:" لَقَد عُدنَا لِلخَلفِ مِئَاتِ السِنِين، حَيًاتنا تَوَقفت، سَقطَ الكَثير مِن الأَصدِقَاءِ الرِيَاضِيِين شُهَدَاء وعَدَد كَبيٌر مِن الأَقَاربِ وأَبناء العُمُومة ومَا بَقى شَي، مَاتَ الكُل، نَاهِيكَ عَن أَنهَ لاَ يُوجَد مَدَارس ولاَ أندية ولاَ مُؤسَسَات فَجِيل كَامِل يَقف مَع ذَوِيهِ عَلى طَوَابير المَاء والتِكيًات وغير ذلك.
وَمِثلهِ مِثلَ أَيً أَب يُحَاوِلَ الحِفَاظِ عَلى أبنَاءِه وحِمَايَتِهِم وتَقدِيمِ كُلَ سُبلِ الَدعم لَهم: “لِدَىً طَالب تَوجيهي كَانَ كُلَ شَي مُتَوَفِر لَهُ انارة، وامكَانِية شَحن المُوبَايل وجِهَاز الحَاسُوب، وكَان يتلقى دروس خصوصي، أَمَا خِلالِ النُزوح بِتنَا نَبحثُ عَلى أَي مَكَان فِيه كَهربَا فلا يُوجَد شَيٌء مُتَوفِر، ولاَ يُوجَد أَمَان خِلاَل التَنَقل والبَحث عَن نِقَاطِ شَحن، والامتِحَانات النِهَائية هذا الشهر وفَصل الشتاء وحالة النزوح اصابتنا بالشلل التام، وعدم توفر الانترنت، وكانَ مِن الصَعبِ طِبَاعةِ الأَورَاق لِدراسِة ابني فَهِي غَالِيَة الثَمَن، إلى جَانِبِ عَدَم تَوَفر الغَذاء الصحِي لِنبقَى عَلى قَيدِ الحَياة.
وعَلى الرغمِ مِن كُلِ هذه الآلام الا أنَ هُنَاك مواقِفَ صَعبَة لاَ يُمكِن للذاكِرة تَخَطِيَها، يَستَذكرُ أَصعَبَ الكَلِمَاتِ التَي وَقَعَت عَلى مَسَامِعِهِ " لاَ تَتركني أَمُوت" كَانت هَذه كَلِمَات ابن عمهِ المَرِيض بِالفَشَلِ الَكَلوي أَثناءَ مُرَافَقَتهِ لَهُ فِي المُستَشفى، يَقُول:" كُنتٌ أُرَافقَ ابن عمي المَرِيض خِلاَل فَترَةِ النُزُوح الى جَنوبِ القطاع يَومِيًا الى المُستَشفَى، كَانَ عَائِدًا الى غَزة قُبيل الحَربِ بِأَيِام بَعَد اجرائهِ عَمَلية زَرع كُلي اصطِنَاعِية فَقَد كَانَ مُصَاباً بِالفَشَلِ الكُلوي، وتَبَرعت لهُ زَوجَته بِإحدى كُليها، جَاءَت الحَرب والنُزوح وكَان لاَبُدَ مِن مُتَابَعةِ العِلاج وتَعاطي بَعضَ الأَدوِيَة الخَاصَة لِيُحَافِظَ عَلى الكُليًة الجَدِيدَة والدَوَاء الذًي كَانَ يَحتَاجهُ غَير مُتَوَفِر خِلاَلَ الحَرب ولا يَستطيعَ السَفرَ بِسَببِ اغلاَقِ مَعبر رفح،
يواصل:" ابن عمي "فواز جندية" كان لاَعب كُرة قَدم سَابِق في نادي اتحاد الشجاعية ومُدَرِبُ أشبال في نفس النادي، كان يَمُوت أمَامِي كُل لَحظة وكُنتُ مُكَتفُ الأيدي لاَ أَستَطيعٌ أن أُقدمَ لَهُ شَيئًا سُوى دَعمِه نَفسِيَا ومُرافقته للمستشفى، لِكن أَتَت الرِيَاح بِمَا لاَ تشتهى السًفن غَادرَ الحَيَاة مُتَألمًا مَحرومًا من أبسط حقوقه.
كَانَ هَذا صَائب جُندية قَائِد المُنتَخَب الفِلَسطِيني السَابِق مَصدُومًا مِمِا رِآهُ مِن رُكًامِ بَيتهِ الذَي أتَى لِتَفَقدهِ بَعدَ نُزوحِ قَسرِي لِعَامٍ وثَلاَث شًهور وبَعدَ تَوقِيعِ وَقفَ إطِلاَقِ النَار بِغَزَة لِيَجَدَ مَاَ تَبَقَى مِن ذِكرَيَاتِهِ قَمِيصَا المُنتَخب الفِلَسطِيني بَيَنَ أَكوام الحِجِارة.
يَسكُنُ جُندية فِي حَي الشِجَاعِيَة شَرق مَدِينَة غَزَة القَرِيبَة مِنَ الحُدودِ الشَرقِيَة لِقِطَاعِ غَزَة، وكَثيِراَ مَاَ كَاَنَت تَتَعَرَض هَذِه المَنطِقَة لِلِقَصفِ والتَدمِير خِلاَل كُلَ عُدوَان عَلى القِطَاع،
يَقُولُ: فِي السَابِعِ مِن أكتوبر2023 فُوجِئتُ بِالقَصفِ المُتَوَاصِلِ دُونَ تَوَقف، وأُصيبَ بَيتِي بِقَذَائِف وَنَحنُ مَازِلنَا مُتًوَاجِدِين بِهِ، وعَمَ الدُخَان البَيَتَ بِأَكمَلِهِ، عَلَى الفَورِ قُمتُ بِإخرِاج عَائِلتي ووالدتي إلى بَيَتِ جِدِي عِندَ مَلعَب فِلَسطِين غَرب مَدِيَنة غَزة وبَقَيًت حَتَى السَاعَة العَاشَرِة صَبَاحَاَ فَي البَيِت لِمُتَابَعةِ الوَضعِ وأُقَرر إذا كَانَ بِالإمكَان البَقَاء وعَوَدة الأسرَة، لَكِن كُلهَا دَقَائِق وأَصبَحَ الجَو العَام صَعبَا لِلغَايَة وسَقَطَ الكَثير مِن الشُهَدَاء واضطرَرتُ لِتَركِ بَيتي".
يُوَاصِلُ السَرد:" ذَهَبتُ بِرِفقَة اخوَتِي إلى مُستًشفَى الشِفَاء لِتَفَقدِ المُصَابِينَ مِن أَفَرَاد العَائِلة وبَقِيًت فَترة قَلِيلَة عِند بِيَت جِدِي لِكِن القَصفِ اشتَدَ أَكثَرَ وَبَعَدَهَا اتَخَذتُ قَرَارَاَ بِالنُزُوحِ والتَوَجه إلى الجَنَوب.
صَائب جندية يَعَمَلُ فِي دَائِرة المُنَتخَبَات فِي الاتِحَاد الفِلَسطِيني لِكُرةِ القَدم لِلمُحَافَظَات الجَنُوبِيَة ومُشرِفَاَ َعَلَى الفِئَاتِ العُمرِيَة لِلمُنتَخَبِ الأُولُمبي والشَبَاب والناشئين، وكَانَت أُجرِيَت قُبَيل الحَرب بِوقتٍ قَلِيل بُطُولَة كرة قدم لمواليد 2008 عَلَى جَمِيعِ مَلاَعِبِ غَزَة لِيَتَم اختِيَار لاَعِبِين مُمَيزين لِإلحَاقِهِم بِالمُنَتخَبَاتِ الفِلَسطِينية، وعَمِلَ فِي أَكَادِيمِيَة تَشَامبِيونز، ثُم عَادَ لِلتدريبِ مِن جَدِيد وتَعَاقد مَع نَادِي الهلال قَبل الحرَبِ بِثَلاَثِ أَيَام وَلَم أَخُوضَ أَي مُباراة.
لَم يَكُن مِن السَهلِ الحَديثَ مَع الكَابتِن "جندية" بَيَنمَا يَتَفَقدَ بَيتِه ويَبكيهِ بِكل زَوَايَاه مُتَأَلِمًا لِضَيَاعِ شَقَي العُمر وذِكرَيَاتِهِ الرِيَاضِيَة، لَكِنَ الحَدِيثَ هُو المُتًنَفس الوَحَيد لألامه :"لاَ شَيئ يُعوض، شَقَى العُمر ذَهَبَ مَعِ الرِيح، ولاَ أَثَرَ لِلمَتحَفِ الرياضي الذَي أَقمتُهُ فِي بَيتي وكَان يَضَمُ كَافَة المِيدَالِيَات والكُؤوس وأَغَلَى الإنجَازَات، بُرونزيّة الدًورة العَربِيَة مَع مُنتَخَبِ فِلَسطِين عَام 1999، الميدالية البرونزيّة فِي لُعبة كُرة القَدَم خِلاَل دَوَرة الأَلعَاب الآَسيَوية الشَاطِئِيَة الثَالِثَة، التَي أَقيمت فِي الصِين عام 2012، إلى جَانب عَدد مِن المِيدَالِيَات، والكُؤوس، والدُروع التَقدِيرية،
يُضِيف:" مِن كُل هَذا التَاريخ استطعتُ استخراجَ قَمِيصَا المُنتَخَب الفِلَسطِيني اللًذان ارتَدَيتهما خلال مًشِارَكَاتِي الخَارِجِيَة، وكَانَ الطَابِق الثَانِي كُنتُ أُعِيشُ بِه، أَمِا الطَابِق الثاَلِث فَكَان لأَبنائي".
بَعَدَ اشتِدَادِ الغَارَاتِ وتَوَاصل القَصفِ عَلى مَدِيَنة غَزَة ألقَى الاحتِلاَل مَنَاشِيَر تُطَالِبُ السُكَان بِالتَوَجه إلى الجَنُوب واخلاَء المَدينَة، لَم يَكُن هُنَاكَ أَي مَجَال لِلبَقَاء، يَقُولُ:" بَدَأَ الاحتلال بإلقاء المَنَاشِيرِ تُطَالِبنَا بِالإخلاَء، لَم يَكنُ أَمَامَنا أَي مَجَال لِلتَفكِيرِ عَلَى الفَورِ قَررنَا التَوَجُه إلى الجَنُوبِ، وَبَعدَ تَوَاصلي مع الأَصدِقَاء انتَهى الأمر بِاستِضَافَتنا فَي نَادِي اتحَاد دير البلح مِن خِلاَل رَئِيس النَادِي "معاذ أبو سليم" ابن نائب رئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم الراحل إبراهيم أبو سليم".
طَريقٌ محفوفٌ بِالمَخَاطِر وَرَائِحة المَوت تَنبَعِثُ بِكُلِ مَكَان، كَانَ عَلَيهِ وأُسرَتِهَ قًطعُ مَسَافَات طَوِيلَة لِلِوصولِ إلى الجَنُوبِ، يُوضحُ:" تَحَرَكتُ أَنَا وأُسرتي وتُرَافِقَنِي وَالدِتِي عَلى طَريق صَلَاح الدين، كَانَ الجَو العَام مُخِيف، السَماءُ مُلبدة بِالطَائِرات الحَربِيَة التي كَاَنت تَقصِفُ دُونَ تَوقف، وانعِدَام أَي حَركة ِلِلسِياراتِ والمواصلات مشلولة تماماً، مشينا مسافة تقدر ب ستة كيلو مترات سيرا على الاقدام، من ملعب فلسطين غَرب مَدينة حَتى دَوار الكُويت وَسطَ قِطَاع غَزَة،
صَمَتَ لِبِرهَة مِنَ الوَقتِ كَانَ يُحَاوِلُ أَن يَستَذكِر مَا حَدثَ مَعهُ:" وَنَحنُ فِي طَرِيقِينَا بَينَمَا نَحنُ مُتعَبُون مِنَ المَشي لِمسَافَاتٍ طَوَيلَة تَحتَ وَقعِ القَصِفِ الإسَرَائيلي وإذ يَقُوم الاحتِلال بِقَصفِ بَعَضَ السَيَارات الخَاصَة لِلمِواطِنِين كَانَت تَقِلُ نَازِحِين وَكَانَ عَلى جُنبَاتِ الطَريقِ عَدد مِن الشُهَدَاء، اضِطَرَرنَا لِتَغيير الطَريقِ ونَسلكَ طَريقَا آخرًا مِن حَي الزَيتون شَرق مَدينة غَزة مُرورًا بِحَاجِز نيتساريم.
وفِي طَرِيقهِ إلى الجَنوب خِلال النُزوح نَظرَ خَلفِه وكَأَنه يَلقِى نَظرةَ الوَدَاع عَلى المَدِيَنة التي عَاشَ فِيَهَا حَيَاتِهِ تَارِكًا ذِكَريَاتِه الجَمِيلَة وتَفَاصِيل حَيَاتِه،
:" تَرَكتُ أَجمَل أَيَامَ حَيَاتِي وذِكريَاتي، بَيتي الدَافئ، حَتى مِيدَالِياتي وقُمصَان الأَندية والمُنَتخب الفِلَسطيني وأغراضِي الشَخصِيَة وحَتى الأَورَاق الثُبُوتِيَة لَم أَستَطع أَن آخذَها مَعِي، لَقَد دَمرَ الاحتِلاَل المَنطِقَة التي أَسكُنُ بِهَا بِالكَامِل، كَانَت العَوَدَة مُستَحِيلَة آنذاك.
بَعدَ رِحلَة مَشَقة وعَذاب وَصَلَ الكَابتن صائب جندية إلى نَادي اتحَاد دير البلح غَرب مُحَافَظة دِير البَلَح لِيستَقر فِي النَادي نَازِحَا ولَيَس مُدَرِبَا، فَلَم يَتَخَيَلَ أَنَ المَلاَعِبَ والأَندِيَة التِي كَانَت تَشهَدُ عَلى إنجَازَاتِه وتَاريخَهُ الرِيَاضِي أنَ تَتَحَوَلَ إلى مَكَانٍ لِلنزُوح القَسرِي، يَقُول:" وَصَلتُ النَادِي بَعَدَ مَشَقَة طَوِيلَة وسَانَدنِي الأَصدِقَاءُ فِي تَوفِيرِ مَقر النَادي لِلمكوثِ فِيهِ خِلاِلِ النُزُوح، لَكِني لَم أَتَخَيًلَ يَومًا أن يَكُونَ النَادِي مَكَانًا لِلنُزُوحِ ولَيسَ لِكُرِةِ القَدَم، وأَصبَحت تَفَاصِيلَ حَيًاتِي فِي المُستَطِيلِ الأَخضَر.
يَرى جُندِية أنً حَيًاتِه أَصبَحَت شِبه مُتَوَقِفَة، فَهوَ عَلَى أِرضِ مَلعَب نادي اتحاد دير البلح نَازِحًا وغَير قَادِر عَلى مُمارسَة الريَاضَة فَهُو مُضطَر لِلاستِيقَاظِ مُبَكِراً لِلبَحثِ عَن المَاء والطعَام، والحَطب لِإشعَالِ النًارِ مِن أجلِ تَحضير الطعَام، نَحنُ نَعِيشُ ظُروفًا لاَ تُشبِهَنَا ولاَ تُشبهُ حَيَاتِنَا السَابِقَة، هَكَذا وَصَفَ حَالَه.
خِلال فَترة نُزوحهِ فِي النًادي كَانَت هُنَاك بَعض المُبَادَرَات الرِيَاضِية بِرِفقَة إدَارَة النَادِي والُزمَلاَء والأَصدقَاء يَقُومُون بِهَا للتخفيفِ مِن حِدَة القَلَقِ والتَوَتر لِلأطفَالِ والنَازِحِين.
شعورُ ملوث بالإحباط واليأس يُسيطران عَليه، وبَدا عَليهِ الذُبُولَ وهُو يُحَاوِلُ وَصفَ الوَاقِع الذَي يَعِيشُهُ:" فِي العُدوَانِ المُتَكَرِرِ أَكثَرَ مِن مَرة فِي السَنَوَاتِ المَاضِيَة كُنتٌ أَتَمَكَنَ مِن مُمارسَة الرياضة وأَشغل نَفسي بِهَا، لِكِنَ خِلاَلَ حَرب الإبادة هذَه لاَ مَجَالَ لِلتفكير بِالرياضة أَو أَي شَي آخر، فَهُنَاك أَولَوِيَات قَبَلَ كُل شَيء"، يُضِيفُ:" لَقَد عُدنَا لِلخَلفِ مِئَاتِ السِنِين، حَيًاتنا تَوَقفت، سَقطَ الكَثير مِن الأَصدِقَاءِ الرِيَاضِيِين شُهَدَاء وعَدَد كَبيٌر مِن الأَقَاربِ وأَبناء العُمُومة ومَا بَقى شَي، مَاتَ الكُل، نَاهِيكَ عَن أَنهَ لاَ يُوجَد مَدَارس ولاَ أندية ولاَ مُؤسَسَات فَجِيل كَامِل يَقف مَع ذَوِيهِ عَلى طَوَابير المَاء والتِكيًات وغير ذلك.
وَمِثلهِ مِثلَ أَيً أَب يُحَاوِلَ الحِفَاظِ عَلى أبنَاءِه وحِمَايَتِهِم وتَقدِيمِ كُلَ سُبلِ الَدعم لَهم: “لِدَىً طَالب تَوجيهي كَانَ كُلَ شَي مُتَوَفِر لَهُ انارة، وامكَانِية شَحن المُوبَايل وجِهَاز الحَاسُوب، وكَان يتلقى دروس خصوصي، أَمَا خِلالِ النُزوح بِتنَا نَبحثُ عَلى أَي مَكَان فِيه كَهربَا فلا يُوجَد شَيٌء مُتَوفِر، ولاَ يُوجَد أَمَان خِلاَل التَنَقل والبَحث عَن نِقَاطِ شَحن، والامتِحَانات النِهَائية هذا الشهر وفَصل الشتاء وحالة النزوح اصابتنا بالشلل التام، وعدم توفر الانترنت، وكانَ مِن الصَعبِ طِبَاعةِ الأَورَاق لِدراسِة ابني فَهِي غَالِيَة الثَمَن، إلى جَانِبِ عَدَم تَوَفر الغَذاء الصحِي لِنبقَى عَلى قَيدِ الحَياة.
وعَلى الرغمِ مِن كُلِ هذه الآلام الا أنَ هُنَاك مواقِفَ صَعبَة لاَ يُمكِن للذاكِرة تَخَطِيَها، يَستَذكرُ أَصعَبَ الكَلِمَاتِ التَي وَقَعَت عَلى مَسَامِعِهِ " لاَ تَتركني أَمُوت" كَانت هَذه كَلِمَات ابن عمهِ المَرِيض بِالفَشَلِ الَكَلوي أَثناءَ مُرَافَقَتهِ لَهُ فِي المُستَشفى، يَقُول:" كُنتٌ أُرَافقَ ابن عمي المَرِيض خِلاَل فَترَةِ النُزُوح الى جَنوبِ القطاع يَومِيًا الى المُستَشفَى، كَانَ عَائِدًا الى غَزة قُبيل الحَربِ بِأَيِام بَعَد اجرائهِ عَمَلية زَرع كُلي اصطِنَاعِية فَقَد كَانَ مُصَاباً بِالفَشَلِ الكُلوي، وتَبَرعت لهُ زَوجَته بِإحدى كُليها، جَاءَت الحَرب والنُزوح وكَان لاَبُدَ مِن مُتَابَعةِ العِلاج وتَعاطي بَعضَ الأَدوِيَة الخَاصَة لِيُحَافِظَ عَلى الكُليًة الجَدِيدَة والدَوَاء الذًي كَانَ يَحتَاجهُ غَير مُتَوَفِر خِلاَلَ الحَرب ولا يَستطيعَ السَفرَ بِسَببِ اغلاَقِ مَعبر رفح،
يواصل:" ابن عمي "فواز جندية" كان لاَعب كُرة قَدم سَابِق في نادي اتحاد الشجاعية ومُدَرِبُ أشبال في نفس النادي، كان يَمُوت أمَامِي كُل لَحظة وكُنتُ مُكَتفُ الأيدي لاَ أَستَطيعٌ أن أُقدمَ لَهُ شَيئًا سُوى دَعمِه نَفسِيَا ومُرافقته للمستشفى، لِكن أَتَت الرِيَاح بِمَا لاَ تشتهى السًفن غَادرَ الحَيَاة مُتَألمًا مَحرومًا من أبسط حقوقه.
News from the same category
